الحب والعشق في الشعر الحديث 1-3
الحب والعشق
في الشعر الحديث
(1-3)
يمتاز شعر الحب والعشق الحديث بالتصريح غير المقيد عن المشاعر والأحاسيس وينهل مكونات من الواقع أكثر منه من الخيال، فهو يعكس تجارب عاطفية حية بلغة سلسلة وسهلة المنال والفهم وتبتعد عن استخدام الكلمات المعجمية غير المتداولة على ألسنة العامة من الناس.
إنها لغة تنهل مكوناتها من أرض الواقع، لكنها تميل أكثر للمزج بين صور الواقع وجوهر الروح المرتبط بعوالم كونية خارجة عن حدود العالم الأرضي لتعبر عن ماهية الحب والعشق وتحدد بنود علاقة الحب المستمدة نصوصها من أرض الواقع تارة وتارة أخرى من نصوص روحية تنهل صياغاتها من عوالم كونية تتداخل فيها الفلسفة وعلم النفس والروحانيات والغيب.....!.
وخلع الشعر الحديث عن الشعر ملابس العفة والحجاب وأصبح أكثر عرياً في التعبير عن جوهر العلاقة الإنسانية رافضاً القيود المتوارثة والأعراف الاجتماعية المتقاطعة مع مسارات الحب والعشق. معلناً تحديه لكافة الشرائع التي تفرض قيودها على التصريح والإعلان عن علاقة الحب ومشاعر العاشق، وفتح الباب على مصراعيه (للتخصص!) في مجال الشعر فأصبح هناك شعراء مختصين في الشعر السياسي، وآخرون مختصون في شعر الحب والعشق......ولتسليط الضوء على عينات مختارة من الشعر الحديث في الحب والعشق، نطرق المحاور أدناه:
-1-
(الحب من النظرة الأولى)
يتيه الجسد في زحمة المدينة يتفحص ويفترس وجوه النساء بنظرات مريبة ويحدق في الأجساد والعيون بحثاً عن شيء لايدري ما هو. ربما يبحث عن امرأة أحلامه أو عن صورة ماثلة في الوجدان غير قادر على تحديد ملامحها لكنه يمكن أن يتعرف عليها، يشخصها بين الألوف من البشر. من هي وما هي هويتها؟ أين مكانها؟ متى يلتقيها؟ أسئلة كثير لها ضربات المطارق على الروح والقلب وتمر السنون ولاجواب وتستمر المطارق بضرباتها تحفر في الذاكرة ودهاليز لعلها تجد الإجابة دون جدوى!.
وفي لحظة شاردة من الزمن...يسقط نظرك على امرأة عابرة في الطريق، لاتعرفها..لم تشاهدها من قبل..تجيبك على أسئلة العمر من خلال ابتسامة باهتة ترشقك بألوف من السهام تدمي قلبك وتهيمن على عواطفك وتسلب أحاسيسك وتأسر روحك عنوة. لتقول لك مازلت تبحث عني، كذلك أنا ابحث عنك!. فيرسل القلب أوامره بالحب ويرسل قلبها الجواب فوراً، إنها ليست لحظة شاردة من الزمن وإنما هي الحب من أول نظرة في مساحة اللحظة الزمنية.
يصف ((معروف الرصافي)) النظرة الأولى من الحب قائلاً:
"لقيتها في الطريق عابرة.............يهصر من قدها تبخترها
أعجبها منظري وأعجبني ...........بالحسن عند إلقاء منظرها
فصار قلبي بالحب يأمرني..........وقلبـها بـالغرام يأمرها".
إن الحب من النظرة الأولى ليس حب وإعجاب حسب، بل هو أسر لقلب المحبوب. إنها نظرة تفحص لتفاصيل جمال الجسد، تبدأ بالعيون فيغرق العاشق في بحارها ومن ثم بالشفاه التي تذيب جليد العواطف والأحاسيس التي أسرتها سنوات الانتظار وكلما غاص العاشق أكثر في تفاصيل الجسد لمعشوقته، كلما استسلمت قلاع عواطفه الواحدة تلو الأخرى حتى يصبح منزوعاً من السلاح ومستجدياً السلام. هل بسمة واحدة من امرأة عابرة...لها كل هذا السحر والقدرة على هزيمة فارس الأحلام؟.
يتحدث ((مير بصري)) عن بسمة لامرأة عابرة في الطريق أسرت فؤاده:
" بسمت لي مدلة في الطريق.............فكوت مهجتي بنار حريق
ومضت تحمل الفؤاد أسير...............بلحاظ العيون ذات البريق".
ممن المسؤول عن أسر الفؤاد، هل عيون المرأة أم بسمتها؟ ايهما أكثر تأثيراً على فارس الأحلام النظرات أم البسمات أم الاثنان معا، لربما للأولى تعمل على شل الإرادة والثانية تمارس فعلها بالأسر متشفية وساخرة بالقول: أيها المارد والمتحدي من نظرة واحدة ألقيت كل أسلحتك مستسلماً. يا لهذا القلب الرهيف ألا صمدت قليلاً حتى أمنحك عفوي.
يتحدث ((علي الخطيب)) عن سحر عين وشفاه الحبيبة قائلاً:
" لها الأعين النجل، إذا رنت،............أثار فؤادي ضجة في أضالعي
على شفيتها رفًّ روحي محوماً.........كأن لم يجرب جامحات المطالع".
-2-
(الحب والهوى)
يحتاج التعبير عن الأشياء لاستخدام معظم حروف اللغة، فالتعبير عن فكرة يحتاج إلى صياغات لغوية لاحصر لها وإن تجيب عن أسئلة تحتاج إلى انتقاء الكلمات المناسبة لصياغة الجواب. لكن عن تعبر عن مشاعر وأحاسيس لاتحتاج سوى إلى حرفين في اللغة (حب) للدلالة على العواطف وما يختزن القلب من الأحاسيس تجاه الآخر. فهل إن الحروف والصياغات المستخدمة للتعبير عن الأشياء والأفكار صادرة عن حالة الوعي؟ لذلك لاتتبع مسالك العفوية في التعبير ساعية لتأكيد صدقها بالصياغات اللغوية المحكمة غير القابلة للتأويل، لأنها نتاج عن حالة الوعي المدرك لماهية الفكرة وأبعادها والمسالك الواجب إتباعها لتأكيد صدقها.
في حين أن الحب، هو نتاج عن حالة اللاوعي، والعفوية المفرطة التي لاتخضع لقواعد وصياغات اللغة وإنما إلى منظومة القلب منبع الإحساس والعاطفة التي لاتشترط إثبات صدقها من عدم صدقها. إنها تحمل بين طياتها صدق دعواها من خلال التعبير عنها بالحواس الخمسة فنظرة مليئة بالإحساس تكفي للتعبير عن الصدق. ولمسة عطف واحدة تكفي لإشعال حرائق في منظومة الجسد ومفردة لغوية واحدة تنطق، قادرة أن تجرف من أمامها كل حواجز الممانعة. وإن تتذوق لعاب الآخر عبر الشفاه، يكفي لارواء كل مساحات الجسد العطشى. وإن تستنشق عطر النفس تتفتح كل براعم الزهور النائمة في دهاليز الروح لتبدأ ربيعها غافلة استحقاقات الفصول الأخرى، أما أن تسمع عذوبة الكلام يعني أنك تغرق في عالم الموسيقى وتغريد طيور الحب........!.
يكتشف ((عبد القادر الناصري)) علاقة الحواس مع الروح في الحب قائلاً:
"أحبك، هل علمت، سلي دموعي...........على كفيك لو سئلت تبدح
أحبك هل علمت، بأن روحي..............على شـفتيك ذائبة تنوح".
إذا كان الحب، عفوي بهذا القدر أو ذاك فإن علاقة الحب ليست كذلك فهي تحتاج لاكتشاف القنوات العاطفية المغذية لبذرة الحب فكلما تدفقت ينابيع الأحاسيس والعواطف أكثر نحو بذرة الحب، كلما توسعت مساحة الحب واكتسحت مساحات التصحر في الروح فتسعد النفس بربيعها بعد فصول لاحصر لها من شتاءات أطفئت وهج الأيام والسنين وحولت غابات العمر إلى صحاري تعاني من عطش الأيام!.
فالحب الذي يخلو من عبقرية اكتشاف مسالك العلاقة ليس حباً ينهل من جنون العشق مفردته لأن الحب أحد طلاسم الجنون وما لم يصبح المرء مجنوناً لايمكنه فك تلك الطلاسم التي لاتمنح أسرارها سوى للمجانين!.
يجسد ((علي الخطيب)) تلك الرؤية في الجنون قائلاً:
"أحبك حباً جلًّ شأناً عن الهوى..............به النفس من أدرانها تتجرد
أحبـك حبـاً عبقريـاً مؤاتياً...............يوضع من الأوضاع لايتقيد
وحبـً وديـعاً هادئـاً مترفقاً................وحبـاً جنونياً يغار ويحقد".
إن تسمو علاقة الحب لتصبح عشقاً وجنوناً، فهي شيمة من شيم العشاق لايفقه شرائعها سوى من ابتلى بداء العشق. وأتقن فن فك الطلاسم ونهل من طعم الجنون فناً وقدرة على فك معادلات الأواصر وقراءة طلاسم الحب فيصبح شاعراً تسبقه الكلمات والمعاني قبل أن يسبقها في التدوين والإلقاء.....إنها فقط من خاصة المعشوق تصف جماله ورقته وعذب كلامه وتضفي عليه سمات تقترب أكثر من سمات الأقدار.
يعبر عنها ((حافظ الشيرازي)) قائلاً:
"شيمة العاشقين في الحب لطف..........وغلو في المدح والإطراء
وتفانٍ تسمو به الروح في الخلد..........سمو الأبـطال والشهداء
لا كلام تسـوده غـلظة القول..........ووعـظ يـليق بالأنبياء".